فصل: باب اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ بِالْعَصْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ بِالْعَصْرِ:

984- قَوْله: «كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس مُرْتَفِعَة حَيَّة فَيَذْهَب الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِي الْعَوَالِي وَالشَّمْس مُرْتَفِعَة»، وَفِي رِوَايَة: «ثُمَّ يَذْهَب الذَّاهِب إِلَى قُبَاء فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْس مُرْتَفِعَة»، وَفِي رِوَايَة: «ثُمَّ يَخْرُج إِلَى بَنِي عَمْرو بْن عَوْف فَيَجِدهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْر» أَمَّا الْعَوَالِي فَهِيَ الْقُرَى الَّتِي حَوْل الْمَدِينَة أَبْعَدهَا عَلَى ثَمَانِيَة أَمْيَال مِنْ الْمَدِينَة، وَأَقْرَبهَا مِيلَانِ، وَبَعْضهَا ثَلَاثَة أَمْيَال، وَبِهِ فَسَّرَهَا مَالِك.
وَأَمَّا (قُبَاء) فَتُمَدّ وَتُقْصَر وَتُصْرَف وَلَا تُصْرَف وَتُذَكَّر وَتُؤَنَّث، وَالْأَفْصَح فيه الصَّرْف وَالتَّذْكِير وَالْمَدّ، وَهُوَ عَلَى نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْ الْمَدِينَة.
قَوْله: «وَالشَّمْس مُرْتَفِعَة حَيَّة» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَيَاتهَا صَفَاء لَوْنهَا قَبْل أَنْ تَصْفَرّ أَوْ تَتَغَيَّر، وَهُوَ مِثْل قَوْله: بَيْضَاء نَقِيَّة، وَقَالَ- هُوَ أَيْضًا- وَغَيْره: حَيَاتهَا: وُجُود حَرّهَا. وَالْمُرَاد بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَمَا بَعْدهَا الْمُبَادَرَة لِصَلَاةِ الْعَصْر أَوَّل وَقْتهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن أَنْ يَذْهَب بَعْد صَلَاة الْعَصْر مِيلَيْنِ وَثَلَاثَة وَالشَّمْس بَعْدُ لَمْ تَتَغَيَّر بِصُفْرَةٍ وَنَحْوهَا إِلَّا إِذَا صَلَّى الْعَصْر حِين صَارَ ظِلّ الشَّيْء مِثْله، وَلَا يَكَاد يَحْصُل هَذَا إِلَّا فِي الْأَيَّام الطَّوِيلَة. وَقَوْله: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْر، ثُمَّ يَخْرُج الْإِنْسَان إِلَى بَنِي عَمْرو بْن عَوْف فَيَجِدهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْر، قَالَ الْعُلَمَاء: مَنَازِل بَنِي عَمْرو بْن عَوْف عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْمَدِينَة، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الْمُبَالَغَة فِي تَعْجِيل صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ صَلَاة بَنِي عَمْرو فِي وَسَط الْوَقْت، وَلَوْلَا هَذَا لَمْ يَكُنْ فيه حُجَّة، وَلَعَلَّ تَأْخِير بَنِي عَمْرو لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَهْل أَعْمَال فِي حُرُوثِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَحَوَاطِيهِمْ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالهمْ تَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ وَغَيْرهَا ثُمَّ اِجْتَمَعُوا لَهَا، فَتَتَأَخَّر صَلَاتهمْ إِلَى وَسَط الْوَقْت لِهَذَا الْمَعْنَى. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث وَمَا بَعْدهَا دَلِيل لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّ وَقْت الْعَصْر يَدْخُل إِذَا صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَدْخُل حَتَّى يَصِير ظِلّ الشَّيْء مِثْلَيْهِ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيث حُجَّة لِلْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ مَعَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي بَيَان الْمَوَاقِيت، وَحَدِيث جَابِر، وَغَيْر ذَلِكَ.
987- قَوْله: عَنْ الْعَلَاء (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي دَاره حِين اِنْصَرَفَ مِنْ الظُّهْر وَدَاره بِجَنْبِ الْمَسْجِد، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ: أَصْلَيْتُمْ الْعَصْر؟ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا اِنْصَرَفْنَا السَّاعَة مِنْ الظُّهْر، قَالَ: فَصَلُّوا الْعَصْر؛ فَقُمْنَا فَصَلَّيْنَا الْعَصْر، فَلَمَّا اِنْصَرَفْنَا قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق يَجْلِس يَرْقُب الشَّمْس حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْن قَرْنَيْ الشَّيْطَان قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُر اللَّه فيها إِلَّا قَلِيلًا)، وَفِي رِوَايَة: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: (صَلَّيْنَا مَعَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الظُّهْر، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَى أَنَس فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْر فَقُلْت، يَا عَمّ مَا هَذِهِ الصَّلَاة الَّتِي صَلَّيْت؟ قَالَ الْعَصْر، وَهَذِهِ صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ) هَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَرِيحَانِ فِي التَّبْكِير بِصَلَاةِ الْعَصْر فِي أَوَّل وَقْتهَا وَأَنَّ وَقْتهَا يَدْخُل بِمَصِيرِ ظِلّ الشَّيْء مِثْله، وَلِهَذَا كَانَ الْآخَرُونَ يُؤَخِّرُونَ الظُّهْر إِلَى ذَلِكَ الْوَقْت، وَإِنَّمَا أَخَّرَهَا عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز عَلَى عَادَة الْأُمَرَاء قَبْله قَبْل أَنْ تَبْلُغهُ السُّنَّة فِي تَقْدِيمهَا، فَلَمَّا بَلَغَتْهُ صَارَ إِلَى التَّقْدِيم، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَّرَهَا لِشُغْلٍ وَعُذْر عَرَضَ لَهُ، وَظَاهِر الْحَدِيث يَقْتَضِي التَّأْوِيل الْأَوَّل، وَهَذَا كَانَ حِين وَلِيَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْمَدِينَة نِيَابَة لَا فِي خِلَافَته؛ لِأَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تُوُفِّيَ قَبْل خِلَافَة عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز بِنَحْوِ تِسْع سِنِينَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق» فيه: تَصْرِيح بِذَمِّ تَأْخِير صَلَاة الْعَصْر بِلَا عُذْر لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجْلِس يَرْقُب الشَّمْس».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْن قَرْنَيْ الشَّيْطَان» اِخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَته وَظَاهِر لَفْظه، وَالْمُرَاد أَنَّهُ يُحَاذِيهَا بِقَرْنَيْهِ عِنْد غُرُوبهَا، وَكَذَا عِنْد طُلُوعهَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّار يَسْجُدُونَ لَهَا حِينَئِذٍ فَيُقَارِنهَا لِيَكُونَ السَّاجِدُونَ لَهَا فِي صُورَة السَّاجِدِينَ لَهُ، وَيُخَيِّل لِنَفْسِهِ وَلِأَعْوَانِهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْجُدُونَ لَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْمَجَاز، وَالْمُرَاد بِقَرْنِهِ وَقَرْنَيْهِ: عُلُوّهُ وَارْتِفَاعه وَسُلْطَانه وَتَسَلُّطه وَغَلَبَته وَأَعْوَانه، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ تَمْثِيل، وَمَعْنَاهُ أَنَّ تَأْخِيرهَا بِتَزْيِينِ الشَّيْطَان وَمُدَافَعَته لَهُمْ عَنْ تَعْجِيلهَا كَمُدَافَعَةِ ذَوَات الْقُرُون لِمَا تَدْفَعهُ. وَالصَّحِيح الْأَوَّل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُر اللَّه فيها إِلَّا قَلِيلًا» تَصْرِيح بِذَمِّ مَنْ صَلَّى مُسْرِعًا بِحَيْثُ لَا يُكْمِل الْخُشُوع وَالطُّمَأْنِينَة وَالْأَذْكَار، وَالْمُرَاد بِالنَّقْرِ: سُرْعَة الْحَرَكَات كَنَقْرِ الطَّائِرِ.
989- قَوْله: «صَلَّى لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْر، فَلَمَّا اِنْصَرَفْنَا أَتَاهُ رَجُل مِنْ بَنِي سَلِمَة فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه! إِنَّا نُرِيد أَنْ نَنْحَر جَزُورًا لَنَا وَنَحْنُ نُحِبّ أَنْ تَحْضُرهَا قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، فَوَجَدْنَا الْجَزُور لَمْ تُنْحَر، فَنُحِرَتْ ثُمَّ قُطِعَتْ ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا ثُمَّ أَكَلْنَا مِنْهَا قَبْل أَنْ تَغِيب الشَّمْس» هَذَا تَصْرِيح بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْبِير بِالْعَصْرِ، وَفيه: إِجَابَة الدَّعْوَة، وَأَنَّ الدَّعْوَة لِلطَّعَامِ مُسْتَحَبَّة فِي كُلّ وَقْت سَوَاء أَوَّل النَّهَار وَآخِره. وَالْجَزُور: بِفَتْحِ الْجِيم لَا يَكُون إِلَّا مِنْ الْإِبِل، وَبَنُو سَلِمَة بِكَسْرِ اللَّام.
990- قَوْله (عَنْ أَبِي النَّجَاشِيّ) هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَاسْمه: عَطَاء بْن صُهَيْبٍ مَوْلَى رَافِع بْن خَدِيج رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.

.باب التَّغْلِيظِ فِي تَفْوِيتِ صَلاَةِ الْعَصْرِ:

991- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي تَفُوتهُ صَلَاة الْعَصْر كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» رُوِيَ بِنَصْبِ اللَّامَيْنِ وَرَفْعهمَا، وَالنَّصْب هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول ثَانٍ، وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله. وَمَعْنَاهُ: اِنْتُزِعَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَهَذَا تَفْسِير مَالِك بْن أَنَس.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة النَّصْب فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ نُقِصَ هُوَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَسُلِبَهُ، فَبَقِيَ بِلَا أَهْل وَلَا مَال، فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَفْوِيتهَا كَحَذَرِهِ مِنْ ذَهَاب أَهْله وَمَاله.
وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ: مَعْنَاهُ عِنْد أَهْل اللُّغَة وَالْفِقْه أَنَّهُ كَاَلَّذِي يُصَاب بِأَهْلِهِ وَمَاله إِصَابَة يَطْلُب بِهَا وَتْرًا، وَالْوَتْر الْجِنَايَة الَّتِي يَطْلُب ثَأْرهَا فَيَجْتَمِع عَلَيْهِ غَمَّانِ: غَمّ الْمُصِيبَة وَغَمّ مُقَاسَاة طَلَب الثَّأْر.
وَقَالَ الدَّاوُدِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة: مَعْنَاهُ يَتَوَجَّه عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِرْجَاع مَا يَتَوَجَّه عَلَى مَنْ فَقَدَ أَهْله وَمَاله، فَيَتَوَجَّه عَلَيْهِ النَّدَم وَالْأَسَف لِتَفْوِيتِهِ الصَّلَاة، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَاتَهُ مِنْ الثَّوَاب مَا يَلْحَقهُ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ كَمَا يَلْحَق مَنْ ذَهَبَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِفَوَاتِ الْعَصْر فِي هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ اِبْن وَهْب وَغَيْره: هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا فِي وَقْتهَا الْمُخْتَار، وَقَالَ سَحْنُون وَالْأَصِيلِيّ: هُوَ أَنْ تَفُوتهُ بِغُرُوبِ الشَّمْس، وَقِيلَ: هُوَ تَفْوِيتهَا إِلَى أَنْ تَصْفَرّ الشَّمْس، وَقَدْ وَرَدَ مُفَسَّرًا مِنْ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث.
قَالَ فيه: وَفَوَاتهَا أَنْ يَدْخُل الشَّمْس صُفْرَة، وَرُوِيَ عَنْ سَالِم أَنَّهُ قَالَ هَذَا فِيمَنْ فَاتَتْهُ نَاسِيًا، وَعَلَى قَوْل الدَّاوُدِيّ هُوَ فِي الْعَامِد، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَر، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه: «مَنْ تَرَكَ صَلَاة الْعَصْر حَبَطَ عَمَله» وَهَذَا إِنَّمَا يَكُون فِي الْعَامِد.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَلْحَق بِالْعَصْرِ بَاقِي الصَّلَوَات: وَيَكُون نَبَّهَ بِالْعَصْرِ عَلَى غَيْرهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا تَأْتِي وَقْت تَعَب النَّاس مِنْ مُقَاسَاة أَعْمَالهمْ وَحِرْصهمْ عَلَى قَضَاء أَشْغَالهمْ وَتَسْوِيفهمْ بِهَا إِلَى اِنْقِضَاء وَظَائِفهمْ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَر؛ لِأَنَّ الشَّرْع وَرَدَ فِي الْعَصْر، وَلَمْ تَتَحَقَّق الْعِلَّة فِي هَذَا الْحُكْم فَلَا يُلْحَق بِهَا غَيْرهَا بِالشَّكِّ وَالتَّوَهُّم، وَإِنَّمَا يُلْحَق غَيْر الْمَنْصُوص بِالْمَنْصُوصِ إِذَا عَرَفْنَا الْعِلَّة وَاشْتَرَكَا فيها. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (قَالَ عَمْرو يَبْلُغ بِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْر رَفَعَهُ) هُمَا بِمَعْنًى، لَكِنَّ عَادَة مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه الْمُحَافَظَة عَلَى اللَّفْظ وَإِنْ اِتَّفَقَ مَعْنَاهُ وَهِيَ عَادَة جَمِيلَة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
993- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس» وَفِي رِوَايَة: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر»، وَفِي رِوَايَة: اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «شَغَلُونَا عَنْ صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فَمَنْ بَعْدهمْ فِي الصَّلَاة الْوُسْطَى الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فَقَالَ جَمَاعَة: هِيَ الْعَصْر؛ مِمَّنْ نُقِلَ هَذَا عَنْهُ: عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَأَبُو أَيُّوب وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَبِيدَة السَّلْمَانِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر وَغَيْرهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ مِنْ أَصْحَابنَا: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه لِصِحَّةِ الْأَحَادِيث فيه.
قَالَ: وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّهَا الصُّبْح لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الْعَصْر وَمَذْهَبه اِتِّبَاع الْحَدِيث.
وَقَالَتْ طَائِفَة: هِيَ الصُّبْح، مِمَّنْ نُقِلَ هَذَا عَنْهُ: عُمَر بْن الْخَطَّاب وَمُعَاذ بْن جَبَل وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَجَابِر وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَمَالِك بْن أَنَس وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أَصْحَابه وَغَيْرهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَقَالَ طَائِفَة: هِيَ الظُّهْر نَقَلُوهُ عَنْ: زَيْد بْن ثَابِت وَأُسَامَة بْن زَيْد وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَعَائِشَة وَعَبْد اللَّه بْن شَدَّاد وَرِوَايَة عَنْ أَبِي حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقَالَ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب: هِيَ الْمَغْرِب، وَقَالَ غَيْره: هِيَ الْعِشَاء.
وَقِيلَ: إِحْدَى الْخَمْس مُبْهَمَة.
وَقِيلَ: الْوُسْطَى جَمِيع الْخَمْس، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض.
وَقِيلَ: هِيَ الْجُمُعَة، وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال قَوْلَانِ: الْعَصْر وَالصُّبْح، وَأَصَحّهمَا الْعَصْر؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة. وَمَنْ قَالَ: هِيَ الصُّبْح، يَتَأَوَّل الْأَحَادِيث عَلَى أَنَّ الْعَصْر تُسَمَّى وَسَطًا. وَيَقُول: إِنَّهَا غَيْر الْوُسْطَى الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن، وَهَذَا تَأْوِيل ضَعِيف، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا الصُّبْح يَحْتَجّ بِأَنَّهَا تَأْتِي فِي وَقْت مَشَقَّة بِسَبَبِ بَرْد الشِّتَاء، وَطِيب النَّوْم فِي الصَّيْف، وَالنُّعَاس وَفُتُور الْأَعْضَاء، وَغَفْلَة النَّاس؛ فَخُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ لِكَوْنِهَا مُعَرَّضَة لِلضَّيَاعِ بِخِلَافِ غَيْرهَا. وَمَنْ قَالَ: هِيَ الْعَصْر يَقُول: إِنَّهَا تَأْتِي وَقْت اِشْتِغَال النَّاس بِمَعَايِشِهِمْ وَأَعْمَالهمْ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: هِيَ الْجُمُعَة، فَمَذْهَب ضَعِيف جِدًّا، لِأَنَّ الْمَفْهُوم مِنْ الْإِيصَاء بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا مُعَرَّضَة لِلضَّيَاعِ، وَهَذَا لَا يَلِيق بِالْجُمْعَةِ، فَإِنَّ النَّاس يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا فِي الْعَادَة أَكْثَر مِنْ غَيْرهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي فِي الْأُسْبُوع مَرَّة بِخِلَافِ غَيْرهَا، وَمَنْ قَالَ: هِيَ جَمِيع الْخَمْس فَضَعِيف أَوْ غَلَط؛ لِأَنَّ الْعَرَب لَا تَذْكُر الشَّيْء مُفَصَّلًا ثُمَّ تُجْمِلهُ، وَإِنَّمَا تَذْكُرهُ مُجْمَلًا ثُمَّ تُفَصِّلهُ، أَوْ تُفَصِّل بَعْضه تَنْبِيهًا عَلَى فَضِيلَته، وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الدَّلِيلِ لِمَنْ قَالَ الصَّلاَةُ الْوُسْطَى هِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ:

994- قَوْله: (عَنْ عَبِيدَة عَنْ عَلِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْر الْبَاء وَهُوَ عَبِيدَة السَّلْمَانِيّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (يَوْم الْأَحْزَاب) هِيَ الْغَزْوَة الْمَشْهُورَة يُقَال لَهَا: الْأَحْزَاب وَالْخَنْدَق، وَكَانَتْ سَنَة أَرْبَع مِنْ الْهِجْرَة، وَقِيلَ سَنَة خَمْس.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَغَلُونَا عَنْ صَلَاة الْوُسْطَى حَتَّى آبَتْ الشَّمْس» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ وَأُصُول السَّمَاع (صَلَاة الْوُسْطَى) وَهُوَ مِنْ بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} وَفيه الْمَذْهَبَانِ الْمَعْرُوفَانِ: مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ: جَوَاز إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صِفَته، وَمَذْهَب الْبَصْرِيِّينَ مَنَعَهُ وَيُقَدِّرُونَ فيه مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيره هُنَا: عَنْ صَلَاة الصَّلَاة الْوُسْطَى أَيْ عَنْ فِعْل الصَّلَاة الْوُسْطَى.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى آبَتْ الشَّمْس» قَالَ الْحَرْبِيّ: مَعْنَاهُ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانهَا بِاللَّيْلِ أَيْ غَرَبَتْ مِنْ قَوْلهمْ (آبَ) إِذَا رَجَعَ.
وَقَالَ غَيْره: مَعْنَاهُ سَارَتْ لِلْغُرُوبِ، وَالتَّأْوِيب سَيْرُ النَّهَار.
995- قَوْله (يَحْيَى بْن الْجَزَّار) هُوَ بِالْجِيمِ وَالزَّاي وَآخِره رَاء، وَفِي الطَّرِيق الْأَوَّل: يَحْيَى بْن الْجَزَّار عَنْ عَلِيّ، وَفِي الثَّانِي عَنْ يَحْيَى سَمِعَ عَلِيًّا أَعَادَهُ مُسْلِم لِلِاخْتِلَافِ فِي (عَنْ) و(سَمِعَ).
قَوْله: «فُرْضَة مِنْ فُرَض الْخَنْدَق» الْفُرْضَة بِضَمِّ الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَة، وَهِيَ الْمَدْخَل مِنْ مَدَاخِله وَالْمَنْفَذ إِلَيْهِ.
996- قَوْله: (عَنْ مُسْلِم بْن صُبَيْح) بِضَمِّ الصَّاد وَهُوَ أَبُو الضُّحَى.
قَوْله: (عَنْ شُتَيْر بْن شَكَل) شُتَيْر بِضَمِّ الشِّين، وَشَكَل بِفَتْحِ الشِّين وَالْكَاف، وَيُقَال: بِإِسْكَانِ الْكَاف أَيْضًا.
قَوْله: «ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْن الْعِشَاءَيْنِ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء» فيه: بَيَان صِحَّة إِطْلَاق لَفْظ الْعِشَاءَيْنِ عَلَى الْمَغْرِب وَالْعِشَاء، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضهمْ، لِأَنَّ الْمَغْرِب لَا يُسَمَّى عِشَاء وَهَذَا غَلَط، لِأَنَّ التَّثْنِيَة هُنَا لِلتَّغْلِيبِ كَالْأَبَوَيْنِ وَالْقَمَرَيْنِ وَالْعُمَرَيْنِ وَنَظَائِرهمَا.
وَأَمَّا تَأْخِير النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس فَكَانَ قَبْل نُزُول صَلَاة الْخَوْف.
قَالَ الْعُلَمَاء: يَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَّرَهَا نِسْيَانًا لَا عَمْدًا وَكَانَ السَّبَب فِي النِّسْيَان الِاشْتِغَال بِأَمْرِ الْعَدُوّ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَّرَهَا عَمْدًا لِلِاشْتِغَالِ بِالْعَدُوِّ، وَكَانَ هَذَا عُذْرًا فِي تَأْخِير الصَّلَاة قَبْل نُزُول صَلَاة الْخَوْف، وَأَمَّا الْيَوْم فَلَا يَحُوز تَأْخِير الصَّلَاة عَنْ وَقْتهَا بِسَبَبِ الْعَدُوّ وَالْقِتَال، بَلْ يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف عَلَى حَسْب الْحَال، وَلَهَا أَنْوَاع مَعْرُوفَة فِي كُتُب الْفِقْه وَسَنُشِيرُ إِلَى مَقَاصِدهَا فِي بَابهَا مِنْ هَذَا الشَّرْح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيث هُنَا وَفِي الْبُخَارِيّ أَنَّ الصَّلَاة الْفَائِتَة كَانَتْ صَلَاة الْعَصْر، وَظَاهِره أَنَّهُ لَمْ يَفُتْ غَيْرهَا، وَفِي الْمُوَطَّأ أَنَّهَا الظُّهْر وَالْعَصْر، وَفِي غَيْره أَنَّهُ أَخَّرَ أَرْبَع صَلَوَات الظُّهْر وَالْعَصْر وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاء حَتَّى ذَهَبَ هَوِيّ مِنْ اللَّيْل. وَطَرِيق الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات أَنَّ وَقْعَة الْخَنْدَق بَقِيَتْ أَيَّامًا، فَكَانَ هَذَا فِي بَعْض الْأَيَّام وَهَذَا فِي بَعْضهَا.
998- قَوْله فِي حَدِيث عَائِشَة: (فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات: وَصَلَاة الْعَصْر بِالْوَاوِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْض أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّ الْوُسْطَى لَيْسَتْ الْعَصْر، لِأَنَّ الْعَطْف يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة، لَكِنَّ مَذْهَبنَا أَنَّ الْقِرَاءَة الشَّاذَّة لَا يُحْتَجّ بِهَا، وَلَا يَكُون لَهَا حُكْم الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَنَّ نَاقِلهَا لَمْ يَنْقُلْهَا إِلَّا عَلَى أَنَّهَا قُرْآن، وَالْقُرْآن لَا يَثْبُت إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُت قُرْآنًا لَا يَثْبُت خَبَرًا، وَالْمَسْأَلَة مُقَرَّرَة فِي أُصُول الْفِقْه، وَفيها خِلَاف بَيْننَا وَبَيْن أَبِي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
1000- قَوْله: «أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُول اللَّه: مَا كِدْت أَنْ أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُب الشَّمْس، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَوَاَللَّهِ إِنْ صَلَّيْتهَا» مَعْنَاهُ: مَا صَلَّيْتهَا وَإِنَّمَا حَلَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فَإِنَّهُ شَقَّ عَلَيْهِ تَأْخِير الْعَصْر إِلَى قَرِيب مِنْ الْمَغْرِب، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا بَعْد؛ لِيَكُونَ لِعُمَر بِهِ أُسْوَة، وَلَا يَشُقّ عَلَيْهِ مَا جَرَى وَتَطِيب نَفْسه، وَأَكَّدَ ذَلِكَ الْخَبَر بِالْيَمِينِ. وَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز الْيَمِين مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف، وَهِيَ مُسْتَحَبَّة إِذَا كَانَ فيه مَصْلَحَة مِنْ تَوْكِيد الْأَمْر أَوْ زِيَادَة طُمَأْنِينَة، أَوْ نَفْي تَوَهُّم نِسْيَان أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِد السَّائِغَة، وَقَدْ كَثُرَتْ فيه الْأَحَادِيث، وَهَكَذَا الْقَسَم مِنْ اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّارِيَاتِ} {وَالطُّورِ} {وَالْمُرْسَلَاتِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالضُّحَى} {وَالتِّينِ} {وَالْعَادِيَاتِ} {وَالْعَصْرِ} وَنَظَائِرهَا كُلّ ذَلِكَ لِتَفْخِيمِ الْمُقْسَم عَلَيْهِ وَتَوْكِيده. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «فَنَزَلْنَا إِلَى بُطْحَان» هُوَ بِضَمِّ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَإِسْكَان الطَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، هَكَذَا هُوَ عِنْد جَمِيع الْمُحَدِّثِينَ فِي رِوَايَاتهمْ وَفِي ضَبْطهمْ وَتَقْيِيدهمْ.
وَقَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء وَكَسْر الطَّاء وَلَمْ يُجِيزُوا غَيْر هَذَا، وَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِب الْبَارِع وَأَبُو عُبَيْد الْبَكْرِيّ وَهُوَ وَادٍ بِالْمَدِينَةِ.
قَوْله: «فَنَزَلْنَا إِلَى بُطْحَان فَتَوَضَّأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَضَّأْنَا فَصَلَّى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْر بَعْد مَا غَرَبَتْ الشَّمْس، ثُمَّ صَلَّى بَعْدهَا الْمَغْرِب» هَذَا ظَاهِره أَنَّهُ صَلَّاهُمَا فِي جَمَاعَة، فَيَكُون فيه دَلِيل لِجَوَازِ صَلَاة الْفَرِيضَة الْفَائِتَة جَمَاعَة، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد أَنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْ اللَّيْث مَرْدُود بِهَذَا الْحَدِيث وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة: أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْح بِأَصْحَابِهِ جَمَاعَة حِين نَامُوا عَنْهَا، كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا بِقَلِيلٍ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاة وَذَكَرَهَا فِي وَقْت أُخْرَى يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْدَأ بِقَضَاءِ الْفَائِتَة، ثُمَّ يُصَلِّي الْحَاضِرَة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ عِنْد الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة عَلَى الِاسْتِحْبَاب، فَلَوْ صَلَّى الْحَاضِرَة ثُمَّ الْفَائِتَة جَازَ، وَعِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَآخَرِينَ عَلَى الْإِيجَاب فَلَوْ قَدَّمَ الْحَاضِرَة لَمْ يَصِحّ.
وَقَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول: إِنَّ وَقْت الْمَغْرِب مُتَّسِع إِلَى غُرُوب الشَّفَق؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْعَصْر عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ ضَيِّقًا لَبَدَأَ بِالْمَغْرِبِ؛ لِئَلَّا يَفُوت وَقْتهَا أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا دَلَالَة فيه لِهَذَا الْقَائِل؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْد غُرُوب الشَّمْس بِزَمَنٍ بِحَيْثُ خَرَجَ وَقْت الْمَغْرِب عِنْد مَنْ يَقُول إِنَّهُ ضَيِّق، فَلَا يَكُون فِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِهَذَا، وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَار أَنَّ وَقْت الْمَغْرِب يَمْتَدّ إِلَى غُرُوب الشَّفَق كَمَا سَبَقَ إِيضَاحه بِدَلَائِلِهِ وَالْجَوَاب عَنْ مُعَارِضهَا.

.باب فَضْلِ صَلاَتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمَا:

1001- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَة بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاة الْفَجْر وَصَلَاة الْعَصْر» فيه: دَلِيل لِمَنْ قَالَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ: يَجُوز إِظْهَار ضَمِير الْجَمْع وَالتَّثْنِيَة فِي الْفِعْل إِذَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ لُغَة بَنِي الْحَارِث، وَحَكَوْا فيه قَوْلهمْ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْأَخْفَش وَمَنْ وَافَقَهُ قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَأَكْثَر النَّحْوِيِّينَ: لَا يَجُوز إِظْهَار الضَّمِير مَعَ تَقَدُّم الْفِعْل، وَيَتَأَوَّلُونَ كُلّ هَذَا وَيَجْعَلُونَ الِاسْم بَعْده بَدَلًا مِنْ الضَّمِير وَلَا يَرْفَعُونَهُ بِالْفِعْلِ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قِيلَ: الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَكَذَا يَتَعَاقَبُونَ وَنَظَائِره. وَمَعْنَى (يَتَعَاقَبُونَ) تَأْتِي طَائِفَة بَعْد طَائِفَة، وَمِنْهُ تَعَقُّب الْجُيُوش؛ وَهُوَ أَنْ يَذْهَب إِلَى ثَغْر قَوْم وَيَجِيء آخَرُونَ.
وَأَمَّا اِجْتِمَاعهمْ فِي الْفَجْر وَالْعَصْر فَهُوَ مِنْ لُطْف اللَّه تَعَالَى بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْرِمَة لَهُمْ أَنْ جَعَلَ اِجْتِمَاع الْمَلَائِكَة عِنْدهمْ وَمُفَارَقَتهمْ لَهُمْ فِي أَوْقَات عِبَادَاتهمْ وَاجْتِمَاعهمْ عَلَى طَاعَة رَبّهمْ، فَيَكُون شَهَادَتهمْ لَهُمْ بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْخَيْر.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَسْأَلهُمْ رَبّهمْ وَهُوَ أَعْلَم بِهِمْ كَيْف تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟» فَهَذَا السُّؤَال عَلَى ظَاهِره، وَهُوَ تَعَبُّد مِنْهُ لِمَلَائِكَتِهِ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِكَتْبِ الْأَعْمَال، وَهُوَ أَعْلَم بِالْجَمِيعِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: الْأَظْهَر وَقَوْل الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة هُمْ الْحَفَظَة الْكُتَّاب قَالَ: وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَة الْمَلَائِكَة بِجُمْلَةِ النَّاس غَيْر الْحَفَظَة.
1002- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَته» تَقَدَّمَ شَرْحه وَضَبْطه فِي كِتَاب الْإِيمَان، وَمَعْنَاهُ: لَا يَلْحَقكُمْ ضَيْم فِي الرُّؤْيَة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَر» أَيْ تَرَوْنَهُ رُؤْيَة مُحَقَّقَة لَا شَكّ فيها وَلَا مَشَقَّة، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَر رُؤْيَة مُحَقَّقَة بِلَا مَشَقَّة، فَهُوَ تَشْبِيه لِلرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ لَا الْمَرْئِيّ بِالْمَرْئِيِّ. وَالرُّؤْيَة مُخْتَصَّة بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْكُفَّار فَلَا يَرَوْنَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى.
وَقِيلَ: يَرَاهُ مُنَافِقُو هَذِهِ الْأُمَّة، وَهَذَا ضَعِيف، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَرَوْنَهُ كَمَا لَا يَرَاهُ بَاقِي الْكُفَّار بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الْإِيمَان.
1003- قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَة) هُوَ بِالْجِيمِ.

.باب بَيَانِ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ:

1006- قَوْله: «كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِب إِذَا غَرَبَتْ الشَّمْس وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ» اللَّفْظَانِ بِمَعْنًى، وَأَحَدهمَا تَفْسِير لِلْآخَرِ.
1007- قَوْله: «كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِب مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْصَرِف أَحَدنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِر مَوَاقِع نَبْله» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُبَكِّر بِهَا فِي أَوَّل وَقْتهَا بِمُجَرَّدِ غُرُوب الشَّمْس، حَتَّى نَنْصَرِف وَيَرْمِي أَحَدنَا النَّبْل عَنْ قَوْسه وَيُبْصِر لِبَقَاءِ الضَّوْء. وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْمَغْرِب تُعَجَّل عَقِب غُرُوب الشَّمْس وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشِّيعَة فيه شَيْء لَا اِلْتِفَات إِلَيْهِ وَلَا أَصْل لَهُ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي تَأْخِير الْمَغْرِب إِلَى قَرِيب سُقُوط الشَّفَق فَكَانَتْ لِبَيَانِ جَوَاز التَّأْخِير، كَمَا سَبَقَ إِيضَاحه؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ جَوَاب سَائِل عَنْ الْوَقْت، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ إِخْبَار عَنْ عَادَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَكَرِّرَة الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ فَالِاعْتِمَاد عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب وَقْتِ الْعِشَاءِ وَتَأْخِيرِهَا:

ذَكَرَ فِي الْبَاب تَأْخِير صَلَاة الْعِشَاء وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ الْأَفْضَل تَقْدِيمهَا أَمْ تَأْخِيرهَا؟ وَهُمَا مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ، وَقَوْلَانِ لِمَالِك وَالشَّافِعِيّ، فَمَنْ فَضَّلَ التَّأْخِير اِحْتَجَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَمَنْ فَضَّلَ التَّقْدِيم اِحْتَجَّ بِأَنَّ الْعَادَة الْغَالِبَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيمهَا، وَإِنَّمَا أَخَّرَهَا فِي أَوْقَات يَسِيرَة لِبَيَانِ الْجَوَاز، أَوْ لِشُغْلٍ أَوْ لِعُذْرٍ، وَفِي بَعْض هَذِهِ الْأَحَادِيث الْإِشَارَة إِلَى هَذَا وَاَللَّه أَعْلَم.
1008- قَوْله: (حَدَّثَنَا عَمْرو بْن سَوَّاد) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْوَاو. وَقَوْله: «أَعْتَمَ بِالصَّلَاةِ» أَيْ أَخَّرَهَا حَتَّى اِشْتَدَّتْ عَتَمَة اللَّيْل وَهِيَ ظُلْمَته.
قَوْله: «نَامَ النِّسَاء وَالصِّبْيَان» أَيْ مَنْ يَنْتَظِر الصَّلَاة مِنْهُمْ فِي الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا قَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: نَامَ النِّسَاء وَالصِّبْيَان؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَأَخَّرَ عَنْ الصَّلَاة نَاسِيًا لَهَا أَوْ لِوَقْتِهَا.
قَوْله: «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَنْزُرُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّلَاة» هُوَ بِتَاءِ مُثَنَّاة مِنْ فَوْق مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون سَاكِنَة ثُمَّ زَاي مَضْمُومَة ثُمَّ رَاء أَيْ تُلِحُّوا عَلَيْهِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ بَعْض الرُّوَاة أَنَّهُ ضَبَطَهُ (تُبْرِزُوا) بِضَمِّ التَّاء وَبَعْدهَا بَاء مُوَحَّدَة ثُمَّ رَاء مَكْسُورَة ثُمَّ زَاي مِنْ الْإِبْرَاز وَهُوَ الْإِخْرَاج. وَالرِّوَايَة الْأُولَى هِيَ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة الَّتِي عَلَيْهَا الْجُمْهُور. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْخِير الْمَذْكُور فِي هَذَا الْحَدِيث وَمَا بَعْده كُلّه تَأْخِير لَمْ يَخْرُج بِهِ عَنْ وَقْت الِاخْتِيَار وَهُوَ نِصْف اللَّيْل أَوْ ثُلُث اللَّيْل عَلَى الْخِلَاف الْمَشْهُور الَّذِي قَدَّمْنَا بَيَانه فِي أَوَّل الْمَوَاقِيت.
1009- وَقَوْله فِي رِوَايَة عَائِشَة: «ذَهَبَ عَامَّة اللَّيْل» أَيْ كَثِير مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَكْثَره، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَوَقْتُهَا، وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذَا الْقَوْل مَا بَعْد نِصْف اللَّيْل؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء: إِنَّ تَأْخِيرهَا إِلَى مَا بَعْد نِصْف اللَّيْل أَفْضَل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمَّتِي» مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَوَقْتُهَا الْمُخْتَار أَوْ الْأَفْضَل فَفيه تَفْضِيل تَأْخِيرهَا، وَأَنَّ الْغَالِب كَانَ تَقْدِيمهَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَهَا لِلْمَشَقَّةِ فِي تَأْخِيرهَا، وَمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ التَّقْدِيم قَالَ: لَوْ كَانَ التَّأْخِير أَفْضَل لَوَاظَبَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فيه مَشَقَّة، وَمَنْ قَالَ بِالتَّأْخِيرِ قَالَ: قَدْ نَبَّهَ عَلَى تَفْضِيل التَّأْخِير بِهَذَا اللَّفْظ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ تَرْك التَّأْخِير إِنَّمَا هُوَ لِلْمَشَقَّةِ. وَمَعْنَاهُ- وَاللَّهُ أَعْلَم- أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُوَاظِبُوا عَلَيْهِ فَيُفْرَض عَلَيْهِمْ، وَيَتَوَهَّمُوا إِيجَابه؛ فَلِهَذَا تَرَكَهُ كَمَا تَرَكَ صَلَاة التَّرَاوِيح، وَعَلَّلَ تَرْكهَا بِخَشْيَةِ اِفْتِرَاضهَا وَالْعَجْز عَنْهَا، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَابهَا لِزَوَالِ الْعِلَّة الَّتِي خِيفَ مِنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي الْعِشَاء.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: إِنَّمَا يُسْتَحَبّ تَأْخِيرهَا لِتَطُولَ مُدَّة اِنْتِظَار الصَّلَاة وَمُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ.
1010- قَوْله: «الْعِشَاء الْآخِرَة» دَلِيل عَلَى جَوَاز وَصْفهَا بِالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَة فيه خِلَافًا لِمَا حُكِيَ عَنْ الْأَصْمَعِيّ مِنْ كَرَاهَة هَذَا.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَسْأَلَة.
قَوْله: «فَقَالَ حِين خَرَجَ: إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاة مَا يَنْتَظِرهَا أَهْلُ دِين غَيْركُمْ» فيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْإِمَامِ وَالْعَالِم إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ أَصْحَابه أَوْ جَرَى مِنْهُ مَا يَظُنّ أَنَّهُ يَشُقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَذِر إِلَيْهِمْ وَيَقُول: لَكُمْ فِي هَذَا مَصْلَحَة مِنْ جِهَة كَذَا أَوْ كَانَ لِي عُذْر أَوْ نَحْو هَذَا.
1011- قَوْله: «رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِد ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا» وَفِي رِوَايَة عَائِشَة: «نَامَ أَهْل الْمَسْجِد» هَذَا مَحْمُول عَلَى نَوْم لَا يَنْقُض الْوُضُوء، وَهُوَ نَوْم الْجَالِس مُمَكِّنًا مَقْعَده. وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ نَوْم مِثْل هَذَا لَا يَنْقُض، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا.
وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاح هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي آخِر كِتَاب الطَّهَارَة.
1012- قَوْله: «وَبِيص خَاتَمه» أَيْ بَرِيقه وَلَمَعَانه. وَالْخَاتَم بِكَسْرِ التَّاء وَفَتْحهَا وَيُقَال: خَاتَام وَخَيْتَام أَرْبَع لُغَات. وَفيه: جَوَاز لُبْس خَاتَم الْفِضَّة وَهُوَ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ.
قَوْله: «قَالَ أَنَس: كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى وَبِيص خَاتَمه مِنْ فِضَّة وَرَفَعَ إِصْبَعه الْيُسْرَى بِالْخِنْصَرِ» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول بِالْخِنْصَرِ، وَفيه مَحْذُوف تَقْدِيره: مُشِيرًا بِالْخِنْصَرِ، أَيْ أَنَّ الْخَاتَم كَانَ فِي خِنْصَر الْيَد الْيُسْرَى، وَهَذَا الَّذِي رَفَعَ إِصْبَعه هُوَ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَفِي الْإِصْبَع عَشْر لُغَات: كَسْر الْهَمْزَة وَفَتْحهَا وَضَمّهَا مَعَ كَسْر الْبَاء وَفَتْحهَا وَضَمّهَا، وَالْعَاشِرَة: أُصْبُوع، وَأَفْصَحُهُنَّ: كَسْر الْهَمْزَة مَعَ فَتْح الْبَاء.
1013- قَوْله: «نَظَرْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة حَتَّى كَانَ قَرِيب مِنْ نِصْف اللَّيْل» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض الْأُصُول (قَرِيب)، وَفِي بَعْضهَا (قَرِيبًا) وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَتَقْدِير الْمَنْصُوب حَتَّى كَانَ الزَّمَان قَرِيبًا، وَقَوْله: نَظَرْنَا. أَيْ اِنْتَظَرْنَا يُقَال: نَظَرْته وَانْتَظَرْته بِمَعْنًى.
1014- قَوْله: (بَقِيع بُطْحَان) تَقَدَّمَ الِاخْتِلَاف فِي ضَبْط بُطْحَان فِي بَاب صَلَاة الْوُسْطَى وَبَقِيع بِالْبَاءِ.
قَوْله: (اِبْهَارَّ اللَّيْل) هُوَ بِإِسْكَانِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَتَشْدِيد الرَّاء أَيْ اِنْتَصَفَ.
قَوْله: «فَلَمَّا قَضَى صَلَاته قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: عَلَى رِسْلكُمْ أُعْلِمكُمْ وَأَبْشِرُوا أَنَّ مِنْ نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ» إِلَى آخِره، فَقَوْله: (رِسْلكُمْ) بِكَسْرِ الرَّاء وَفَتْحهَا لُغَتَانِ، الْكَسْر أَفْصَح وَأَشْهَر أَيْ تَأَنُّوا.
وَقَوْله: (أَنَّ مِنْ نِعْمَة اللَّه)، هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة مَعْمُول لِقَوْلِهِ: (أُعْلِمكُمْ) وَقَوْله: (أَنَّهُ لَيْسَ) بِفَتْحِهَا أَيْضًا، وَفيه جَوَاز الْحَدِيث بَعْد صَلَاة الْعِشَاء إِذَا كَانَ فِي خَيْر، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الْكَلَام فِي غَيْر الْخَيْر.
1015- قَوْله: «يَقْطُر رَأْسه مَاء» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ اِغْتَسَلَ حِينَئِذٍ.
قَوْله (إِمَامًا وَخِلْوًا) بِكَسْرِ الْخَاء أَيْ مُنْفَرِدًا.
قَوْله: «ثُمَّ وَضَعَ أَطْرَاف أَصَابِعه عَلَى قَرْن الرَّأْس ثُمَّ صَبَّهَا» هَكَذَا هُوَ فِي أُصُول رِوَايَاتنَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ (قَلَبَهَا)، وَفِي الْبُخَارِيّ (ضَمّهَا)، وَالْأَوَّل هُوَ الصَّوَاب.
وَقَوْله: «وَلَا يُقَصِّر وَلَا يَبْطِش» هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيح مُسْلِم، وَفِي بَعْض نُسَخ الْبُخَارِيّ، وَفِي بَعْضهَا (وَلَا يَعْصِر) بِالْعَيْنِ، وَكُلّه صَحِيح.
1018- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَاب عَلَى اِسْم صَلَاتكُمْ الْعِشَاء، إِنَّهَا فِي كِتَاب اللَّه الْعِشَاء وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلَابِ الْإِبِل». مَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَعْرَاب يُسَمُّونَهَا الْعَتَمَة لِكَوْنِهِمْ يُعْتِمُونَ بِحِلَابِ الْإِبِل، أَيْ يُؤَخِّرُونَهُ إِلَى شِدَّة الظَّلَام. وَإِنَّمَا اِسْمهَا فِي كِتَاب اللَّه: الْعِشَاء، فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْد صَلَاة الْعِشَاء} فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُسَمُّوهَا الْعِشَاء.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تَسْمِيَتهَا بِالْعَتَمَةِ كَحَدِيثِ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْح وَالْعَتَمَة لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» وَغَيْر ذَلِكَ. وَالْجَوَاب عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَأَنَّ النَّهْي عَنْ الْعَتَمَة لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: يَحْتَمِل أَنَّهُ خُوطِبَ بِالْعَتَمَةِ مَنْ لَا يَعْرِف الْعِشَاء فَخُوطِبَ بِمَا يَعْرِفهُ، وَاسْتَعْمَلَ لَفْظ (الْعَتَمَة)؛ لِأَنَّهُ أَشْهَر عِنْد الْعَرَب، وَإِنَّمَا كَانُوا يُطْلِقُونَ الْعِشَاء عَلَى الْمَغْرِب. فَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَاب عَلَى اِسْم صَلَاتكُمْ الْمَغْرِب» قَالَ: وَتَقُول الْأَعْرَاب: الْعِشَاء، فَلَوْ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْح وَالْعِشَاء لَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْمُرَاد الْمَغْرِب وَاللَّهُ أَعْلَم.